خدمات الاقتصاد التشاركي: التحديات ونظرة الاقتصاد الإسلامي (الجزء 3 والأخير)

تؤثر خدمات الاقتصاد التشاركي على ثقافة الناس، حيث يُعتبر المجتمع بشكل عام هو أعظم سلعة. وتُعتبر المخاوف المتعلّقة بالصحة، والسعادة، والثقة، والخبرة، والتعاون، والمشاركة، والاستدامة، من السمات البارزة لهذا الاقتصاد. وذكرنا في مقالين سابقين نقاط القوة والضَّعف لهذا النوع من الاقتصاد. ولكن…
ما هي أبرز التحديات التي تواجه “خدمات الاقتصاد التشارُكي”؟
التنظيم
هي بالفعل أكبر مشكلة. تُقدِّم العديد من الشركات خدمات لم تكن موجودة من قبل، وبالتالي ليست متأكدة من القواعد الواجب اتّباعها. ومن المتوقّع أن تبدأ الوزارات والحكومات في مختلف الدول في تقييم نماذج الأعمال الجديدة بمرور الوقت. وهذا حدث بالفعل في عدة بلدان مع “أوبر”.
انخفاض الطلب في الأماكن البعيدة عن المدن
هناك أمر آخر يقوّض نمو “خدمات الاقتصاد التشاركي”، وهو قلّة الطلب في أماكن مُحدّدة. الميزة الرئيسية لتلك الخدمات عادة هي انخفاض التكلفة عن المعتاد. ومع ذلك، إذا كان توافر تلك الخدمات منخفضًا، فلا فائدة من أن تكون خدمة ما أقلّ تكلفة. يجب على الشركات التفكير في طرقٍ لزيادة وفرة خدماتها قبل التركيز على تنمية قاعدة المستخدمين. هنا تأتي مشكلة على غرار: من أتى أولًا البيضة أم الدجاجة؟ فعلى الرغم من أنه ينبغي أن تكون متوفرة أولًا لكي تجد العملاء، ستجد أن عقلية معظم الشركات هي أنها لن توفّر سيارة في شارعٍ في حيٍّ ناءٍ لأن الطلب لن يكون كافيًا.
تجد خدمات الاقتصاد التشاركي – مثل “إير بي إن بي“، صعوبة في تحقيق التوازن بين العرض والطلب للسبب المذكور ذاته، وستظلّ تُواجه صعوبة في البقاء حتى يُصبح العرض والطلب مُتوافقين مع عملية مستدامة، تلك هي المشكلة الأكثر تعقيدًا أمام هذا النوع من الخدمات. وللمناسبة، ما حدث لـ”أوبر” و”إير بي إن بي” ليس معيارًا؛ فهناك العديد من الشركات الناشئة تعاني لأنها لا تملك الموارد الكافية للحصول على العملاء.
من الحلول المطروحة أن تكون هناك شركات محلية صغيرة، تعمل في مدينة واحدة أو بلدٍ واحد، مما يسهّل من انتشارها سريعًا بين الناس.
تجربة المستخدم
تعتمد معظم الخدمات المقدَّمة في قطاع الاقتصاد التشاركي على التكنولوجيا، إما من خلال تطبيق، أو من خلال واجهة تربط بين العميل ومقدم الخدمة. وهذا من التحديات الكبرى، ونقطة أخرى ينبغي تحسينها، ألا وهي تجربة المستخدم مع هذه التطبيقات. ستكون إمكانات السوق أكبر بكثير إذا كانت قابلية الاستخدام تأخذ في الاعتبار فئة الشباب.
العملاء الخبثاء … ومُزوّدو الخدمة المجرمين!
للأسف هذا أمر واقع ويعاني هذا السوق منه بشدة. توجد بعض آليات التحكم التي تمّ تطويرها للمستخدمين أنفسهم من أجل مُراقبة الأشخاص الذين يُضرّون بمقدمي الخدمة. وتُعَدُّ مراجعة الأشخاص الذين استأجروا السيارات أو المنازل مثلًا وتقييم حالهم من طرق مكافحة سوء الاستخدام.
ولكن، هذا يصبّ في مصلحة مزوّد الخدمة والخدمة نفسها، فماذا عن العملاء أنفسهم؟ الحقيقة مفجعة! سأذكر لك بعض الحقائق في صورة مختصرة، والتي ربما لا تخفى عن الجميع:
- شكاوى العملاء المتكرّرة من حيل مزوّدي الخدمات،
- قضايا تحرش،
- قضايا اغتصاب،
- بلاغات ضد كاميرات خفية تنتهك خصوصية العميل،
- بل بلغ الأمر إلى قتل العملاء، كما حدث مع ضحية موقع “أولكس OLX” مصر.
ومع كل قضية من تلك القضايا، تنفض الخدمة يدها من الأمر وتنصح عملاءها فقط بتوخّي الحذر في المرات المقبلة، مع رفضها التام لما حدث ووضع قوانين تراها الشركة صارمة تجاه المخالفين لها. بالطبع هذا الكلام لا يُسمن ولا يُغني من جوع، والحل الوحيد – في نظري – للخروج من هذه الأزمات، أن تخرج الشركة قليلًا من إطار الاقتصاد التشاركي ليكون لها وجود حقيقي للحد من تلك الشكاوى قبل حدوثها، بدلًا من الرضى بكونها مجرد منصة تعقد اتفاقًا بين طرفين ولا حول لها ولا قوة على أيّ منهما.
توازن السوق في نظر الاقتصاد الإسلامي
إن جميع خدمات الاقتصاد التشاركي لها مزاياها، وهذا أمر مستحيل إنكاره، وأهم تلك الأسباب التي تدفع العملاء للجوء إليها أنها أقلّ بيروقراطية، وبأسعار منخفضة، وتساعد على الحد من البطالة. ومن ناحية أخرى، ينتهي الأمر بوجود بعض الأسباب، ربما كانت كثيرة عند البعض وقليلة عند البعض الآخر، التي تقودنا إلى بعض الإشكاليات حول آلية العمل داخل هذا السوق والبعد الاجتماعي لخدماته.
وأهم شيء في إدارة الأعمال بمفهوم الاقتصاد الإسلامي هو أن على المسلمين إعطاء الأولوية لقِيَمِ الإسلام بدلًا من مجرد السعي وراء الأرباح. لأن الأرباح هي نتيجة طبيعية للأعمال التي تتوافق مع أحكام الشريعة الإسلامية. وإلى جانب حاجة الاقتصاد التشاركي إلى عقدٍ شفّاف وخاضع للمساءلة القانونية، هناك أيضًا حاجة إلى نية صادقة، وإخلاص عند استخدام مفهوم “المشاركة” بين الناس.
وفي سياق منهج الاقتصاد التشاركي في توفير الأعمال عبر تطبيق أو عبر شبكة الإنترنت، فإنه يستخدم في حقيقة أمره قِيَم الاقتصاد الإسلامي. لكن السؤال الذي يطرح نفسه، هو هل خدمات الاقتصاد التشاركي أفضل من الخدمات التقليدية؟ وهل الخدمات التقليدية سيئة وتحتاج إلى القضاء عليها؟
الإجابة المختصرة: لا!
بالطبع لا؛ لأن كلا النوعين من الخدمات عبارة عن نماذج أعمال تشترك في التآزر فيما بينها ولها مزاياها التنافسية الخاصة. بل وإن الخدمات التقليدية يمكن أن تكون متفوّقة في بعض المجالات.
ولا شك أن تطوير التكنولوجيا سيستمر في ابتكار وإنشاء منتجات بل ونماذج أعمال جديدة. يجب أن يعي رواد ورجال الأعمال أنهم بحاجة إلى القدرة على التكيّف مع التغيير والاستجابة السريعة للتطوّر. الأمر لا يتعلق بمن هو الأقوى، بل بمن هو قادر على التكيّف.

كيف سيعمل سائقو سيارات الأجرة التقليدية مثلًا على توفير الدخل اللازم لعائلاتهم ودعم أُسَرِهِم؟ إن دعم وكفالة الأسرة هو من الواجبات في دين الإسلام، وسواء بالنسبة لسائقي سيارات الأجرة التقليدية أو سيارات الأجرة عبر “أوبر” وغيرها، وسواء كانوا يقودون مركباتهم الخاصّة أو سيارات غيرهم، فإن الأرزاق قسّمها الله تعالى على عباده بتقديره وعلمه وحكمته.
في رأيي، التجربة ليست حلًّا لمشكلة. علاوة على ذلك، اقتراحي لهذه المشكلة هو أن توفر الحكومات لوائح بشأن الاقتصاد التشاركي، بما في ذلك تأمين استخدام الخدمات من الجرائم الإلكترونية. ومن أجل أن يتم استيعاب جميع الأطراف على نحوٍ أمثل، يمكن أن تقبل شركة “أوبر”، على سبيل المثال، سيارات الأجرة التقليدية إلى جانب السيارات التي تملكها، مع تفعيل قوي لجهاز حماية المستهلك، ما يؤدي إلى توفير فرص العمل، والحد من البطالة والفقر.
ربما كانت هناك حقيقة واحدة هنا: إن هذا القطاع الجديد موجود وسيستمر وجوده. وعلى الرغم من نكساته، ينبغي مناقشة الجهات الفاعلة فيه ويجب الاستماع إلى جميع الأطراف، فهناك آراء قوية صداها في كل مكان، ولا بُدّ من الإنصات إليها.